كان حلما وخيالا ثم أضحى حقيقة ...وشهدنا تاريخا جديدا يكتب . مازلت أذكر جلساتنا فى مقر عملنا بجامعة الزقازيق ..كان لدينا حلم نتحدث فيه بشكل مباشر وغير مباشر بروح الشباب المتحمس الراغب فى التغيير...كنا فى العشرينات ونعمل مدرسين فى الجامعة فكانت الآمال عريضة أمام جيلنا ان نتسلم الدفة .... ولكن ...مفيش فايدة ...الجملة المصرية المشهورة ..وكيف يكون هناك فائدة وكنا نعمل فى نموذج مصغر للنظام الديكتاتورى ...مركز لغة انجليزية جامعى يحكمه جيل قديم والشباب لايص كالعادة ونظام مشى حالك مفيش فايدة انت متحمس قوى كده ليه. ولكنا كنا نعمل ونضحك ومن هذا الضحك تنطلق العبقرية المصرية . عانينا كثيرا من هذا البلد الطارد لأبناءه ولكن نعود ونمسح وجوهنا فى ترابه كأنها بلد لم يخلق الله مثله . ولأننا نحبها كنا نريد التغيير ...لا زلت أذكر مناقشة عابرة بين أحد الزملاء وأحد الجماهير حول امكانية تدخل الجيش وتطهير النظام ...وتوقع يا باشا سيل التعليقات واليأس المختلط بالضحك من شباب لم يبلغوا الثلاثين بعد ...ياللحسرة . ثم يتدخل عناصر الإخوان فى الحديث لنزداد ضحكا وسخرية .وكالعادة تغلق المناقشة وتتحول إما إلى أكل العيش وهنشترى ايه النهاردة أو يتدخل زميل مشهور ليطرى القعدة و يتحدث فيما يثير اهتمام الرجال ويا حبذا لو كان بين الجالسين زميل عازب أو مقدم على الزواج لنتسلى عليه . وبس يا سيدى ..كوباية الشاى وواحد نسكافيه للبيه وحسابك كام يا عم سعيد وفى (قبض ) النهاردة ولا إيه وامضيلى فى الدفتر يا أستاذ فيصل وتصبحو على خير . ثم تخرج من باب العمل لتصطدم باللافتات والصوراليومية : نعم للأب ..مصر مبارك ..لاستكمال مسيرة العطاء ...من أجلك أنت ..العبور للمستقبل . وتحت اللافتات الموقف ليس فيه سيارات للعودة. ولكن تعود للبيت بفضل الله بعد سلسلة مغامرات وشعبطة لترص لك زوجتك مشاكل وطلبات الأولاد وبعدين عشان تعرف تاكل لازم تغير الأنبوبة يا بطل وتلفعها على كتفك للدور الثالث هذا إذا وجدتها أصلا –طب مقولتيش من بدرى ليه ولا شفت حد يعملها؟- المهم هناكل ايه؟ . وأخيرا تحاول أن تفتح كتابا أو تكتب صفحة وطبعا يحاصرك الأولاد وتغلق الجهاز . وأخيرا يا عم الحاج : اتمسوا بالخير ...تصبحوا على خير ..انت نمت يا أبو محمد؟
وعلى الرغم من العناء المتكرر إلا أن كل هذه التفاصيل كانت لا تخلو من متعة وتفاؤل وضحك وقهقهات عالية ...كان الحلم قائما .
وهاأنا اليوم عبر المحيطات فى عالم آخر بعيد عن كل شئ أشهد حلم الثورة يتحقق وكأنها مسلسل يعرض بصراعاته المتلاحقة . كانت لحظات فوق الخيال عندما قرر الكابوس الجاثم على صدورنا أن يغور ...فوق الخيال لأننا جيل تربينا فى وحله منذ الولاده حتى وصلنا ثلاثين عاما لنرى الصنم يسقط . كل ما أفعله الآن أن أشارك فى ثورة المغتربين حيث نشاهد ونتابع ثم نجتمع لنحلل ونحكى ونتأمل . وهذه ثورتنا هنا فى بلاد الأمريكان : ثورة يوتيوب وكومنتس .
اجتمعنا قبل الغروب ذات يوم عند بحيرة شيكاغو التى تفصلنا عن ميشيجان مقر دراستنا. ووقفنا نتأمل ناطحات السحاب على الجانب الآخر وأشار أحدنا إلى أحدها قائلا : القنصلية المصرية فى هذا المبنى على فكرة . لم يعلق أحد ولكن كان الصمت يخفى وراءه تداعى الأفكار الذى مر بخاطر كل منا عندما ذكرت مصر وسط هذا الصخب من حولنا .
ساعتها عاد كل منا فلاش باك لفترة الثورة واستدعى كيف عشناها معا :
يوم حادثة الكنيسة : قلق على الفيسبوك ودوشة وغضب ...الإحساس العام مفيش فايدة ...رامى يصرخ فينا : مش راجع مصر تانى هأقعد هنا بأى طريقة.
يوم سيد بلال : كفاية كدة بقى .....حرام ...أحمد يستمع لأغنية "يا مصرى ليه دنياك لخابيط" عدة مرات ...امتى ييجى اليوم ده؟
قبلها بيومين : خالد ورامى وأحمد وفريد بعد صلاة الظهر فى المركز الإسلامى يتناقشون فى جدية الدعوة للثورة بالمكان والزمان على الفيس بوك
= يا ابنى انت مصدق نفسك ؟ هو فيه ثورة فى الدنيا بنحدد لها معاد
= أيوه ممكن ....كمية الغضب خلاص محدش هيقدر يوقفه....انتو عارفين كام واحد مسجل حضوره على الصفحة ؟ داخلين على نص مليون ...تخيل لو دول ف الشارع هيعملوا ايه؟
=أنا بصراحة شايف إن ضررها هيبقى أكثر من نفعها ...البلد مش مستحملة ...وبعدين انت عارف لو الدنيا اتقلبت احنا أول ناس هنتاخد ف الرجلين ...خلاص بعثة بح ....روح على أمك انت وهو
=انت بتقول فيها ....طب ايه رأيك ان لو ده حصل هكون مبسوط ...على الأقل هيبقى رايحين مستبيعين بقى ...دكتوراه وطارت ....يلا بقى نبنى من الأول على نظافة
=انت بتحلم يا ابنى ....احنا شعب فاسد أساسا هتصلح ايه ولا ايه
=انت بتقول كده عشان مش عايز ترجع أصلا
= أيوه مش عايز أرجع وهما اللى خسرانين ....لو أغسل صحون هنا أحسن ماأرجع للأشكال اللى كنت شغال معاها ف الجامعة
=أهو كلنا بنقول كده ..مصر روحى ودمى لكن أعيش فيها لأ ....لو مش احنا اللى هنصلح مين اللى هيشتغل ....عايز البلد تتصلح لوحدها ؟ امال احنا جايين هنا نتعلم ايه ....ومصر بتبعت بعثات والفلوس دى كلها على ايه ....وانت يا عم فريد ناوى تهرب انت كمان؟
=عيب يا ابنى الكلام اللى انت بتقوله ده ...انت ماسمعتش أغنية "أهاجر وأسيبك لمين؟" ولا ايه؟
= مين دى أهاجر دى ؟
= اسمعها بس هتعرف
= المهم يا جماعة مش هنعمل وقفة كده ونجمع المصريين فى ديترويت ولا حاجة ؟
وينتهى الحوار على مافيش لأنهم طبعا مش مصدقين اللى ممكن يحصل
بداية الشرارة
أحمد يذهب بابنه إلى جاره فريد ليوصله إلى المدرسة مع أولاده فالطريق يعج بالثلوج البيضاء ولا يمكنه السير بسهوله
= ايه الأخبار؟
= معرفش مفتحتش
= دى البلد مقلوبة يا ابنى ...مظاهرات فى كل حتة
= لما أروح أشوف ...شكلها مفيش مذاكرة الترم ده.
وفعلا جلس أحمد فى محاضراته على اللاب توب يتابع ويعمل ريفرش للصفحة والأستاذ يحاور ويناقش فى الفصل .....وتمر الساعات على هذا .
ليلة جمعة الغضب
اتصل بنا فريد قرب الفجر منفعلا وجمعنا فى شقته ....وطبعا كان يوافق هذا صباحا فى مصر حيث ترقبنا ماذا سيحدث بعد صلاة الجمعة ...وبلغنا أنباء مرعبة عن توعد الشرطة ووعيدها ...كان فريد فى غاية الانفعال يريد أن يفعل شيئا لمصر ..كان يشعر أن مذبحة قادمة وعليه أن يشارك فيها بأى شكل ...
= شوفوا بقى ...أنا كنت بلم حاجتى ورايح على مصر بعيالى لكن فى ورقة معرفتش أخلصها ... لازم نلحق نعمل حاجة .....مش هنقعد نتدفى فى بيوتنا وأهلنا بيدبحوا فى مصر
=طب ايه اللى فى ايدينا يا فريد . ما احنا مرتبين وقفة بكرة بعد الجمعة فى ديترويت وده اللى نقدر عليه ...ده مش شوية على فكرة ...احنا بنبعت الصور لرصد وصوتنا بيوصل
= مش كفاية ...ومتسألنيش عشان مش عارف هنعمل ايه ...نطلع ع البيت الأبيض ولا الكونجرس ...المهم يسمعوا صوتنا
=تروح فين دلوقتى يا فريد ...ده احنا فى آخر الليل ...يعنى كلها ساعتين ويصلوا الجمعة فى مصر
= وبعدين انت ازاى بتفكر أصلا تنزل مصر دلوقتى ؟ دانت اخوانجى صميم وأول واحد هتتشد من المطار ده إذا ماكانش من الطيارة.
ويستمر النقاش والاقتراحات ونستدعى كبار الجالية المصرية ليشاركونا الحوار حتى الفجر ....بينما خالد يتابع الفيس ويوالينا بالتطورات ...وبعد عدة أيام ينفذ فريد ما صمم عليه ويطير مع أهله على مصر فى إجازة .
بعد نزول الجيش
تلاقينا بعد صلاة الجمعة كالعادة
= شفت اللى حصل ...خلاص زمان حسنى كت على أمريكا ...على هنا يعنى
= مش سهلة أوى ...مظنش انه يقع بسهولة كده ...ليه تلات أيام؟...مش معقول
= أيا كان هما دلوقتى اتهزوا ونسمع لسة العجب
وتمر أيام التوتر مع خطابات الرئيس المقيتة والقتل والإصابات والحرائق ويستمر القلق والشغف وكل منا يحاول أن نلتقى لنتكلم ونتشارك التوتر ..لا أحد يعمل ...لا أحد يدرس ...بل إن إدارة الجامعة أرسلت بريدا الكترونيا للطلاب المصريين على مستوى الجامعة تعلن وقوفها بجانبهم وانها مستعدة لتقديم الدعم والمساعدة فى أى
ضائقة يواجهونها بسبب الأحداث .
جمعة التنحى
كعادتنا فى مواصلة الليل بالنهار واللاب توب فوق السرير ...نقوم من يوم الجمعة كأى يوم ...لم يكن عندى محاضرات فى ذلك اليوم ولكن طبعا كان علينا واجبات ...ولكن آخرها نفتح الفيس وريفرش ريفرش . وفجأة تزلزلت الصفحة ....المفاجأة كانت عظيمة ....كان لا بد أن أسمع صوت من مصر ...أى صوت ...اتصلت بزميل فى العمل ولم يكتمل الاتصال ولكنى شعرت بوقع الخبر وكادت تفيض عيناى عندما قال لى أنهم سجدوا شكرا لله فى تلك اللحظة ...واتصلت بصديق فى القرية وسمعت صوته وسط الهرج والمرج من حوله : حسنى كت وسابها تخرب يا عم . عاجبك كده ؟ وانقطع الخط .
بعد صلاة الجمعة كانت الأحضان والدموع من العرب وغير العرب ...كان الكل مذهول ولسان حالهم يقول : يا ليتنى كنت معهم ! وظهرت الحلوى والأعلام المصرية فى المسجد وقضى المصريون معا ليلة لا تنسى ...هل تعرفون كيف احتفلوا ؟ كما كانت ثورة اليوتيوب كان الاحتفال أيضا مجموعة يوتيوب لأيام الثورة شاهدوها معا وأخذوا يعلقون على فيديو كوبرى قصر النيل أو الشاب الذى وقف أمام عربة الشرطة أو الشاب الذى تم قنصه مباشرة فى الاسكندرية . أما أنا فكنت أفكر فى الأشياء الصغيرة التى تصنع التاريخ : كنت أفكر فى بائع الخضار التونسى الذى لن ينساه التاريخ!
وبعد السكرة تأتى الفكرة : فريد إخوانى مخلص ...خالد ثورى حتى النخاع ...رامى محافظ ومتشائم فى معظم الحالات ....أحمد حزب كنبة أيقظته الثورة ... حسن متدين له ميول سلفية ...كلهم يشتركون فى شئ واحد لا شك فيه : يعشقون مصر ويدركون عذابها ويريدونها أفضل . بالطبع كان هناك فلول ولكن لم نكن نعرفهم شخصيا .
كل هذه الشخصيات تجمعت على الصراعات السياسية التى لم نسمع عنها من قبل . كل طرف يتبنى وجهة نظر ويعتنقها ويرى غيره مضلل وغير مدرك ...واستمر الانهيار الفكرى مع حوادث متتالية من يراها وهو فى الغربة يشعر دائما ان البلد ماتت اكلينكيا . كلنا نذكر كيف كان شعورنا عند الثورة حيث قرأت كثيرا فكرة تكررت أن قد آن الأوان للطير المهاجر ان يعود . ولا أنكر أن اللاشعور المصرى فى الغربة كان يراوده هذا الإحساس . كانت البلد دائما طاردة لأهلها حيث هدف الشاب المصرى فى الحياة هو "كيف تطفش من بلدك ؟" وكم كان يتمنى الكثير فى ظل الثورة أن تدعوهم بلدهم من جديد ! ويا ليته يحدث .
وتكرر السؤال مرة أخرى بعد عامين من الثورة ونحن جلوس أمام البحيرة ومن حولنا ناطحات السحاب
= ناوى ترجع قريب ولا هتعيش هنا ؟
= يعنى ايه أعيش هنا ؟
من غير حماس فى الرد متستعجلش بكرة تروح إجازة مصر وتحلف ماانت راجعها تانى
=أنا بس بيصعب عليا حالنا : ازاى كنا عايشين فى مصر حوالى 30 سنة راضيين ومتأقلمين وبنحارب عشان نعيش ونحارب عشان نخليها أحسن وأول ما تيجى الفرصة نبيع 30 سنة ب3 سنوات وكأننا مولودين فى أمريكا . اللى بيحصل
دلوقتى للأسف إننا بنتفنن إزاى نطول إقامتنا فى أمريكا ونتأخر على قد ما نقدر يمكن البلد تتصلح لوحدها
يا ابنى انت هو مهما كان ده مصر هى اللى جايباكو هنا ...مفيش حتى رد الجميل؟
مفيش داعى لليأس يا جماعة ....احنا بنتكلم كأننا ضامنين ان احنا نلاقى فرصة هنا ...احنا عمرنا بيجرى هنا بالسنين واحنامش حاسين ...والأولاد ؟ انتوا نسيتوا إن عندنا عيال ؟ احنا مستغنيين عنهم عشان نرميهم هنا ؟ر
اللى عايز أقوله ف الآخر إن صدمة الحرية كانت مفاجئة علينا ...مع أننا كنا نحلم يوميا بالخلاص من هذا الكابوس فلما حدث لم نصدق ففقد البعض صوابه ....ما حدث هو أن الثورة لم تفرز بعد قيادة ثورية ...مع الاحترام لشخص القيادة فإن عنصر الدراما الثورية لا يتوفر فيه ..كل ما حدث منذ بداية المشوار وحتى كرسى الرئاسة كانت اجراءات باردة ليس فيها أى سخونة ثورية.....محتاجين نتخلى عن اصطمبات قص ولصق وديكورات من شكل الرئاسة القديم ...الشباب محتاج دراما حقيقية من رئيس ثورى يحملوه على أكتافهم إلى الكرسى فيقول وينفذ ويحمل على الأعناق ويعتقل ويدبر والخ الخ م .
ويبقى السؤال : هى فين الثورة ؟ أنا تركت مصر مع حسنى وحضرت الثورة أونلاين فقط والمفروض أرجع أشوفها بعد الثورة ... .................خايف أروح أسأل السؤال : هى الثورة فين .........هى فين الثورة؟
وعلى الرغم من العناء المتكرر إلا أن كل هذه التفاصيل كانت لا تخلو من متعة وتفاؤل وضحك وقهقهات عالية ...كان الحلم قائما .
وهاأنا اليوم عبر المحيطات فى عالم آخر بعيد عن كل شئ أشهد حلم الثورة يتحقق وكأنها مسلسل يعرض بصراعاته المتلاحقة . كانت لحظات فوق الخيال عندما قرر الكابوس الجاثم على صدورنا أن يغور ...فوق الخيال لأننا جيل تربينا فى وحله منذ الولاده حتى وصلنا ثلاثين عاما لنرى الصنم يسقط . كل ما أفعله الآن أن أشارك فى ثورة المغتربين حيث نشاهد ونتابع ثم نجتمع لنحلل ونحكى ونتأمل . وهذه ثورتنا هنا فى بلاد الأمريكان : ثورة يوتيوب وكومنتس .
اجتمعنا قبل الغروب ذات يوم عند بحيرة شيكاغو التى تفصلنا عن ميشيجان مقر دراستنا. ووقفنا نتأمل ناطحات السحاب على الجانب الآخر وأشار أحدنا إلى أحدها قائلا : القنصلية المصرية فى هذا المبنى على فكرة . لم يعلق أحد ولكن كان الصمت يخفى وراءه تداعى الأفكار الذى مر بخاطر كل منا عندما ذكرت مصر وسط هذا الصخب من حولنا .
ساعتها عاد كل منا فلاش باك لفترة الثورة واستدعى كيف عشناها معا :
يوم حادثة الكنيسة : قلق على الفيسبوك ودوشة وغضب ...الإحساس العام مفيش فايدة ...رامى يصرخ فينا : مش راجع مصر تانى هأقعد هنا بأى طريقة.
يوم سيد بلال : كفاية كدة بقى .....حرام ...أحمد يستمع لأغنية "يا مصرى ليه دنياك لخابيط" عدة مرات ...امتى ييجى اليوم ده؟
قبلها بيومين : خالد ورامى وأحمد وفريد بعد صلاة الظهر فى المركز الإسلامى يتناقشون فى جدية الدعوة للثورة بالمكان والزمان على الفيس بوك
= يا ابنى انت مصدق نفسك ؟ هو فيه ثورة فى الدنيا بنحدد لها معاد
= أيوه ممكن ....كمية الغضب خلاص محدش هيقدر يوقفه....انتو عارفين كام واحد مسجل حضوره على الصفحة ؟ داخلين على نص مليون ...تخيل لو دول ف الشارع هيعملوا ايه؟
=أنا بصراحة شايف إن ضررها هيبقى أكثر من نفعها ...البلد مش مستحملة ...وبعدين انت عارف لو الدنيا اتقلبت احنا أول ناس هنتاخد ف الرجلين ...خلاص بعثة بح ....روح على أمك انت وهو
=انت بتقول فيها ....طب ايه رأيك ان لو ده حصل هكون مبسوط ...على الأقل هيبقى رايحين مستبيعين بقى ...دكتوراه وطارت ....يلا بقى نبنى من الأول على نظافة
=انت بتحلم يا ابنى ....احنا شعب فاسد أساسا هتصلح ايه ولا ايه
=انت بتقول كده عشان مش عايز ترجع أصلا
= أيوه مش عايز أرجع وهما اللى خسرانين ....لو أغسل صحون هنا أحسن ماأرجع للأشكال اللى كنت شغال معاها ف الجامعة
=أهو كلنا بنقول كده ..مصر روحى ودمى لكن أعيش فيها لأ ....لو مش احنا اللى هنصلح مين اللى هيشتغل ....عايز البلد تتصلح لوحدها ؟ امال احنا جايين هنا نتعلم ايه ....ومصر بتبعت بعثات والفلوس دى كلها على ايه ....وانت يا عم فريد ناوى تهرب انت كمان؟
=عيب يا ابنى الكلام اللى انت بتقوله ده ...انت ماسمعتش أغنية "أهاجر وأسيبك لمين؟" ولا ايه؟
= مين دى أهاجر دى ؟
= اسمعها بس هتعرف
= المهم يا جماعة مش هنعمل وقفة كده ونجمع المصريين فى ديترويت ولا حاجة ؟
وينتهى الحوار على مافيش لأنهم طبعا مش مصدقين اللى ممكن يحصل
بداية الشرارة
أحمد يذهب بابنه إلى جاره فريد ليوصله إلى المدرسة مع أولاده فالطريق يعج بالثلوج البيضاء ولا يمكنه السير بسهوله
= ايه الأخبار؟
= معرفش مفتحتش
= دى البلد مقلوبة يا ابنى ...مظاهرات فى كل حتة
= لما أروح أشوف ...شكلها مفيش مذاكرة الترم ده.
وفعلا جلس أحمد فى محاضراته على اللاب توب يتابع ويعمل ريفرش للصفحة والأستاذ يحاور ويناقش فى الفصل .....وتمر الساعات على هذا .
ليلة جمعة الغضب
اتصل بنا فريد قرب الفجر منفعلا وجمعنا فى شقته ....وطبعا كان يوافق هذا صباحا فى مصر حيث ترقبنا ماذا سيحدث بعد صلاة الجمعة ...وبلغنا أنباء مرعبة عن توعد الشرطة ووعيدها ...كان فريد فى غاية الانفعال يريد أن يفعل شيئا لمصر ..كان يشعر أن مذبحة قادمة وعليه أن يشارك فيها بأى شكل ...
= شوفوا بقى ...أنا كنت بلم حاجتى ورايح على مصر بعيالى لكن فى ورقة معرفتش أخلصها ... لازم نلحق نعمل حاجة .....مش هنقعد نتدفى فى بيوتنا وأهلنا بيدبحوا فى مصر
=طب ايه اللى فى ايدينا يا فريد . ما احنا مرتبين وقفة بكرة بعد الجمعة فى ديترويت وده اللى نقدر عليه ...ده مش شوية على فكرة ...احنا بنبعت الصور لرصد وصوتنا بيوصل
= مش كفاية ...ومتسألنيش عشان مش عارف هنعمل ايه ...نطلع ع البيت الأبيض ولا الكونجرس ...المهم يسمعوا صوتنا
=تروح فين دلوقتى يا فريد ...ده احنا فى آخر الليل ...يعنى كلها ساعتين ويصلوا الجمعة فى مصر
= وبعدين انت ازاى بتفكر أصلا تنزل مصر دلوقتى ؟ دانت اخوانجى صميم وأول واحد هتتشد من المطار ده إذا ماكانش من الطيارة.
ويستمر النقاش والاقتراحات ونستدعى كبار الجالية المصرية ليشاركونا الحوار حتى الفجر ....بينما خالد يتابع الفيس ويوالينا بالتطورات ...وبعد عدة أيام ينفذ فريد ما صمم عليه ويطير مع أهله على مصر فى إجازة .
بعد نزول الجيش
تلاقينا بعد صلاة الجمعة كالعادة
= شفت اللى حصل ...خلاص زمان حسنى كت على أمريكا ...على هنا يعنى
= مش سهلة أوى ...مظنش انه يقع بسهولة كده ...ليه تلات أيام؟...مش معقول
= أيا كان هما دلوقتى اتهزوا ونسمع لسة العجب
وتمر أيام التوتر مع خطابات الرئيس المقيتة والقتل والإصابات والحرائق ويستمر القلق والشغف وكل منا يحاول أن نلتقى لنتكلم ونتشارك التوتر ..لا أحد يعمل ...لا أحد يدرس ...بل إن إدارة الجامعة أرسلت بريدا الكترونيا للطلاب المصريين على مستوى الجامعة تعلن وقوفها بجانبهم وانها مستعدة لتقديم الدعم والمساعدة فى أى
ضائقة يواجهونها بسبب الأحداث .
جمعة التنحى
كعادتنا فى مواصلة الليل بالنهار واللاب توب فوق السرير ...نقوم من يوم الجمعة كأى يوم ...لم يكن عندى محاضرات فى ذلك اليوم ولكن طبعا كان علينا واجبات ...ولكن آخرها نفتح الفيس وريفرش ريفرش . وفجأة تزلزلت الصفحة ....المفاجأة كانت عظيمة ....كان لا بد أن أسمع صوت من مصر ...أى صوت ...اتصلت بزميل فى العمل ولم يكتمل الاتصال ولكنى شعرت بوقع الخبر وكادت تفيض عيناى عندما قال لى أنهم سجدوا شكرا لله فى تلك اللحظة ...واتصلت بصديق فى القرية وسمعت صوته وسط الهرج والمرج من حوله : حسنى كت وسابها تخرب يا عم . عاجبك كده ؟ وانقطع الخط .
بعد صلاة الجمعة كانت الأحضان والدموع من العرب وغير العرب ...كان الكل مذهول ولسان حالهم يقول : يا ليتنى كنت معهم ! وظهرت الحلوى والأعلام المصرية فى المسجد وقضى المصريون معا ليلة لا تنسى ...هل تعرفون كيف احتفلوا ؟ كما كانت ثورة اليوتيوب كان الاحتفال أيضا مجموعة يوتيوب لأيام الثورة شاهدوها معا وأخذوا يعلقون على فيديو كوبرى قصر النيل أو الشاب الذى وقف أمام عربة الشرطة أو الشاب الذى تم قنصه مباشرة فى الاسكندرية . أما أنا فكنت أفكر فى الأشياء الصغيرة التى تصنع التاريخ : كنت أفكر فى بائع الخضار التونسى الذى لن ينساه التاريخ!
وبعد السكرة تأتى الفكرة : فريد إخوانى مخلص ...خالد ثورى حتى النخاع ...رامى محافظ ومتشائم فى معظم الحالات ....أحمد حزب كنبة أيقظته الثورة ... حسن متدين له ميول سلفية ...كلهم يشتركون فى شئ واحد لا شك فيه : يعشقون مصر ويدركون عذابها ويريدونها أفضل . بالطبع كان هناك فلول ولكن لم نكن نعرفهم شخصيا .
كل هذه الشخصيات تجمعت على الصراعات السياسية التى لم نسمع عنها من قبل . كل طرف يتبنى وجهة نظر ويعتنقها ويرى غيره مضلل وغير مدرك ...واستمر الانهيار الفكرى مع حوادث متتالية من يراها وهو فى الغربة يشعر دائما ان البلد ماتت اكلينكيا . كلنا نذكر كيف كان شعورنا عند الثورة حيث قرأت كثيرا فكرة تكررت أن قد آن الأوان للطير المهاجر ان يعود . ولا أنكر أن اللاشعور المصرى فى الغربة كان يراوده هذا الإحساس . كانت البلد دائما طاردة لأهلها حيث هدف الشاب المصرى فى الحياة هو "كيف تطفش من بلدك ؟" وكم كان يتمنى الكثير فى ظل الثورة أن تدعوهم بلدهم من جديد ! ويا ليته يحدث .
وتكرر السؤال مرة أخرى بعد عامين من الثورة ونحن جلوس أمام البحيرة ومن حولنا ناطحات السحاب
= ناوى ترجع قريب ولا هتعيش هنا ؟
= يعنى ايه أعيش هنا ؟
من غير حماس فى الرد متستعجلش بكرة تروح إجازة مصر وتحلف ماانت راجعها تانى
=أنا بس بيصعب عليا حالنا : ازاى كنا عايشين فى مصر حوالى 30 سنة راضيين ومتأقلمين وبنحارب عشان نعيش ونحارب عشان نخليها أحسن وأول ما تيجى الفرصة نبيع 30 سنة ب3 سنوات وكأننا مولودين فى أمريكا . اللى بيحصل
دلوقتى للأسف إننا بنتفنن إزاى نطول إقامتنا فى أمريكا ونتأخر على قد ما نقدر يمكن البلد تتصلح لوحدها
يا ابنى انت هو مهما كان ده مصر هى اللى جايباكو هنا ...مفيش حتى رد الجميل؟
مفيش داعى لليأس يا جماعة ....احنا بنتكلم كأننا ضامنين ان احنا نلاقى فرصة هنا ...احنا عمرنا بيجرى هنا بالسنين واحنامش حاسين ...والأولاد ؟ انتوا نسيتوا إن عندنا عيال ؟ احنا مستغنيين عنهم عشان نرميهم هنا ؟ر
اللى عايز أقوله ف الآخر إن صدمة الحرية كانت مفاجئة علينا ...مع أننا كنا نحلم يوميا بالخلاص من هذا الكابوس فلما حدث لم نصدق ففقد البعض صوابه ....ما حدث هو أن الثورة لم تفرز بعد قيادة ثورية ...مع الاحترام لشخص القيادة فإن عنصر الدراما الثورية لا يتوفر فيه ..كل ما حدث منذ بداية المشوار وحتى كرسى الرئاسة كانت اجراءات باردة ليس فيها أى سخونة ثورية.....محتاجين نتخلى عن اصطمبات قص ولصق وديكورات من شكل الرئاسة القديم ...الشباب محتاج دراما حقيقية من رئيس ثورى يحملوه على أكتافهم إلى الكرسى فيقول وينفذ ويحمل على الأعناق ويعتقل ويدبر والخ الخ م .
ويبقى السؤال : هى فين الثورة ؟ أنا تركت مصر مع حسنى وحضرت الثورة أونلاين فقط والمفروض أرجع أشوفها بعد الثورة ... .................خايف أروح أسأل السؤال : هى الثورة فين .........هى فين الثورة؟